Your browser doesn't support JavaScript or you have disabled JavaScript. Therefore, here's alternative content...

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ

الإعجاز العلمي
أدوات القراءة
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

"‏ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " (الغاشية:‏17‏).

هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة الغاشية‏ ,‏ وهي سورة مكية‏ ,‏ وعدد آياتها ست وعشرون ‏(26)‏ بعد البسملة‏ ,‏ ويدور محورها الرئيسي حول عدد من مشاهد الآخرة‏ ,‏ ومآل كل من الكفار والمشركين‏ ,‏ والطغاة المتجبرين فيها من جهة ومصير كل من عباد الله الصالحين في جنات النعيم من جهة أخري ‏.‏ وللتأكيد على حتمية ذلك أوردت السورة الكريمة عددا من الآيات الكونية الدالة على حقيقة الألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة للخالق العظيم الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‏ ,‏ وخلق كلا من الجن والإنس لعبادته وطاعته وذلك بما أمر به‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ من عبادة‏ ,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها والجهاد من أجل إقامة عدل الله فيها‏.‏ وتطالب السورة الكريمة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ بتذكير الخلق أجمعين وتبصيرهم بحقيقة الدين ومن أصوله فهم رسالة الإنسان في هذه الحياة‏ ,‏ والتصديق بحتمية الموت والبعث والحساب ثم الخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏ ,‏ وأن يتم هذا التذكير كما تم على عهد السابقين من أنبياء الله‏ ,‏ والذين تكاملت رسالاتهم جميعا في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم بغير ضغط ولا إكراه‏ ,‏ لأن أصلا من أصول الإسلام العظيم هو قول الحق
‏ (تبارك وتعالى‏) ‏" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عليمٌ ‏" (البقرة‏256)‏ .

عرض موجز لسورة الغاشية :
تبدأ السورة الكريمة بتوجيه الخطاب إلى رسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ له‏‏ " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ " (الغاشية:‏1)‏ و ‏(‏الغاشية‏)‏ اسم من أسماء القيامة التي تغشي الناس بأهوالها فتنسيهم كل شيء‏ ,‏ وتجللهم بأفزاعها فتعميهم وتصرف أنظارهم عن أي شيء آخر‏ ,‏ وكان المصطفى‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ إذا سمع هذه الآية الكريمة يجيب بقوله الشريف‏‏ نعم قد جاءني مما يؤكد أن الخطاب موجه في الأصل إلى هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏ (صلى الله عليه وسلم‏) ,‏ ومن ثم فهو خطاب إلى الناس جميعا‏ ,‏ فالتحذير من القيامة التي وصفها القرآن الكريم بأسماء عديدة منها الغاشية والقارعة‏ ,‏ والطآمة‏ ,‏ والصآخة هو جزء رئيسي من رسالة القرآن الكريم إلى الخلق أجمعين‏ ,‏ وقد كان كذلك في كل رسالة سماوية نزلت قبل نزول القرآن الكريم إنذاراً للناس‏ ,‏ وتحذيرا لهم من هول تلك المفاجأة‏ ,‏ وإحياء لها في قلوب وعقول وضمائر الناس حتى لا يغفلوا عنها ويعملوا لها قبل أن يفاجأوا وقوعها ‏.‏ ثم تعرض الآيات بمشهد من مشاهد العذاب لأهل النار من الكفار والمشركين‏ ,‏ والطغاة المتجبرين‏ ,‏ والفسقة المفسدين في الأرض فتقول ‏‏" وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌآ . عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌآ . تَصْلَى نَاراً حَامِيَةًآ . تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍآ . لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍآ . لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ "‏ (الغاشية‏2-‏7)‏ .

وفي هذه الآيات الست التي عجلت السورة فيها بمشهد العذاب اتساقا مع جو الغاشية تصف وجوه المعذبين من الكفار والمشركين‏ ,‏ والظلمة والمفسدين في الأرض بأنها سوف تكون خاشعة من الذل‏ ,‏ والإرهاق‏ ,‏ والتعب‏ ,‏ والخزي‏ ,‏ والهوان‏ ,‏ لأن الخشوع فيه تذلل وانكسار‏ ,‏ وتنكيس للرأس وتخفيض للصوت سواء كان هذا الخشوع تقربا إلى الله‏ (تعالى‏)‏ أو خشية من سوء العاقبة عنده خاصة عند مواجهة الحق في يوم القيامة‏ , (والعمل والنصب‏)‏ اللذان توصف بهما وجوه المعذبين من خلق الله يوم الغاشية قد يكون في الدنيا كما قد يكون في الآخرة‏ ,‏ ففي الدنيا يتعب غير الموفقين من الخلق في الجري وراء الدنيا ومادياتها وشهواتها‏ ,‏ ناسين أو متناسين الآخرة فتشقيهم وتشقي بهم‏ . ‏ وذلك في الدنيا قبل الآخرة‏ ,‏ ثم تشقيهم أكثر في الآخرة حين يواجهون بعذاب الله فيقفون فيه موقف الخاسر الذليل الذي خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين‏ ,‏ وعذاب النار فيه من مشاق العمل ما فيه من حمل الأغلال‏.‏ وجر السلاسل‏ ,‏ والاكتواء بالنار الحامية‏ ,‏ والخوض في ظلماتها‏ ,‏ وما يصاحب ذلك كله من عمل ونصب‏ ,‏ والشرب من عين شديدة الحرارة بلغت أناها أي غاية حرها‏ ,‏ والأكل من الضريع الذي ليس لهم في النار غيره‏ ,‏ وهو من نبت جهنم‏ ,‏ وهو من الغيوب المطلقة التي لا يعلمها إلا الله‏ (تعالى‏)‏ وان قربوها في التشبيه بنوع من الشوك اللاطئ بالأرض ترعاه الإبل وهو أخضر غض‏ ,‏ ويسمي‏ (الشبرق‏)‏ فإذا تم جمعه ويبسه صار اسمه‏ (الضريع‏)‏ وهو مادة سامة كاملة‏ ,‏ وذلك تقريبا للمعني في أذهان أهل الدنيا لأن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا مغايرة كاملة‏ ,‏ وعلى ذلك فان أطعمة أهل النار من مثل الضريع‏ ,‏ والغسلين‏ ,‏ والزقوم والغساق وغيرها من صفاتها أنها‏..‏ لا تسمن ولا تغني من جوع إمعانا في تقريب لون من ألوان عذاب الآخرة إلى عقول وأذهان أهل الدنيا فيحذرونه قدر الجهد والطاقة ‏.‏ وفي مقابلة هذا الذل والهوان والعذاب والشقاء لأهل النار تعرض الآيات لشيء من جزاء أهل الإيمان والتوحيد والتقي والصلاح فتقول ‏‏" وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌآ . لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌآ . فِي جَنَّةٍ عَإليةٍآ . لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةًآ . فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌآ . فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌآ . وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌآ . وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌآ . وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ " (الغاشية‏8‏-‏16)‏ .

وفي هذه الآيات التسع تصف سورة الغاشية جانبا من نعيم أهل الجنة فتصف وجوههم بأنها ذات حسن وبهجة‏ (من النعومة‏)‏ وذات رضي عن النعيم الذي أكرمها‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ به في الجنة‏ (من التكريم والتنعيم‏)‏ وليس أرضي للعبد من أن يستشعر رضي الله‏ (تعالى‏)‏ عنه بمعيته في الدنيا‏ ,‏ وبإسباغ نعمه عليه في الآخرة‏ ,‏ ومن ثم فإن هذه الآيات الكريمة من سورة الغاشية تقدم هذا اللون من السعادة الروحية‏.‏ على النعيم المادي في الآخرة‏ ,‏ فتقدم الرضي الروحي والنفسي والقلبي للعبد الصالح عن سعيه في الدنيا على نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت‏ ,‏ ولا أذن سمعت‏ ,‏ ولا خطر على قلب بشر‏ ,‏ ولكن من قبيل تقريب هذا النعيم إلى تصورات أهل الأرض تصفه الآيات بعلو الجنة في ذاتها‏ ,‏ وفي قدرها‏ ,‏ وفي تعدد درجاتها ومقاماتها‏ ,‏ كما تصفه بهذا القدر الهائل من الشعور بالسلام والاطمئنان‏ ,‏ والسكون والهدوء الذي ينعم به أهل الجنة‏ ,‏ وفيها من التنزه عن كل لغو مما لا فائدة منه ولا خير فيه من الأقوال والأفعال‏ ,‏ وعن كل باطل وقبيح منهما‏ ,‏ مما يجعل العيش فيها من صور النعيم المقيم الذي يضئ الله‏ (تعالى‏)‏ به على عباده الصالحين في الجنة‏ ,‏ بعد صخب الدنيا وضجيجها‏ ,‏ وما امتلأت به من صور اللغو الباطل والقبيح والجدل العقيم العابث واللجاجة الفارغة‏ ,‏ والصراع الدائم‏ ,‏ والزحام‏ ,‏ والخصام‏ ,‏ وذلك من الدعوة لأهل الله في الأرض أن يتشبهوا فيها بأهل الجنة فينأون بأنفسهم عن كل ما لا خير فيه من الأقوال والأفعال حتى يتميزوا على أهل الباطل بمختلف أشكاله وألوانه‏ .‏ ثم تأتي الآيات بعد ذلك بعدد من صور التنعيم الحسي لأهل الجنة في الجنة فتصفها بأن فيها من العيون والينابيع المتدفقة الجارية التي تنبض بالحياة‏ ,‏ وبالعديد من المتع الحسية والمعنوية ما تحمله المياه لأهل الصحاري الجافة القاحلة‏ ,‏ وفيها من السرر المرفوعة ما يوحي بالنظافة والطهارة‏ ,‏ وبرفعة القدر عند الله‏ ,‏ ومن الأكواب الموضوعة ما يشي بالتكريم والتعظيم لأنها مهيأة لشرابهم‏ ,‏ موضوعة بين أيديهم على حواف العيون والينابيع المتدفقة بماء الجنة لا يحتاجون إليها في طلب أو إعداد‏ ,‏ وفيها من وسائل التكريم أيضا النمارق المصفوفة وهي الوسائد والحشايا التي تصف بعضها إلى جانب بعض للاتكاء والارتياح عليها‏ ,‏ والزرابي المبثوثة وهي الطنافس العراض السميكة الفاخرة‏ (السجاجيد والبسط ذات الخمل أي الهدب الرقيقة التي تبقي فوق النسيج للمزيد من راحة الجالس عليها‏)‏ وهي مبسوطة أو مفرقة في المجالس للراحة وللزينة سواء‏ ,‏ وواحدة‏ (الزرابي‏)‏ الزرب هي‏ (الزربي‏)‏ أو‏ (الزريبة‏) .‏ وهذه الأوصاف والنعوت من قبيل تقريب ما في الجنة إلى أذهان أهل الأرض‏ ,‏ وإلا فإن للجنة من الصفات والنعوت ما لا عين رأت‏ ,‏ ولا أذن سمعت‏ ,‏ ولا خطر على قلب بشر‏ ,‏ وللنار من النعوت أيضا ما لا تقوي عقول أهل الأرض على إدراكه ‏.‏ ثم تنتقل الآيات في سورة الغاشية من وصف أحوال كل من أهل النار‏ ,‏ وأهل الجنة في الآخرة إلى الاستشهاد بعدد من آيات الله‏ (تعالى‏)‏ في خلقه للتأكيد على حتمية الآخرة وما فيها من البعث والرجوع إلى الله الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏) ,‏ والعرض الأكبر عليه‏ ,‏ والحساب والجزاء‏ ,‏ ثم الخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏ ,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏ "‏ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْآ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْآ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْآ . وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ " ‏(‏الغاشية‏17‏-‏20) .

وفي هذه الآيات الأربع من الأدلة المادية الملموسة ما ينطق بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏ ,‏ ويشهد للإله الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏ (بغير شريك‏ ,‏ ولا شبيه‏ ,‏ ولا منازع‏ ,‏ ولا صاحبة‏ ,‏ ولا ولد‏) ,‏ كما يشهد له‏ (تبارك وتعالى‏)‏ بالقدرة المطلقة على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه كما وعد بذلك‏ (سبحانه وتعالى‏) ,‏ وكانت قضية البعث عبر التاريخ هي حجة الكافرين والمتشككين الذين أضلهم عن الحق الوقوع في جريمة القياس بمعايير البشر المحدودة على قدرات الله المطلقة واللامحدودة‏ ,‏ انطلاقا من تشويه معني الألوهية في معتقداتهم الفاسدة‏ ,‏ وحصره في صنم ينحتونه بأيديهم‏ ,‏ أو وثن يتخذونه لعبادتهم‏ ,‏ أو بقرة أو كوكب أو نجم أو نار يعبدون أيا منها أو يشركونها في عبادة الله الخالق‏ ,‏ أو طفل رضيع يبكي ويضحك‏ ,‏ وينام ويصحو‏ ,‏ ويأكل ويشرب‏ ,‏ وله من باقي صفات البشر ماله‏ ,‏ والله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏ ,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله ‏‏" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ‏" (الشورى:‏11)‏ , وانطلاقا من هذا الكفر أو الشرك بالله أنكر المنكرون البعث أو تشككوا في إمكانية وقوعه‏.‏ ولذلك أورد ربنا‏ (تبارك وتعالى‏)‏ في سورة الغاشية كما أورد في العديد من آيات القرآن الكريم الإشارة إلى إتقان الخلق في كل أمر من أمور الكون ومكوناته مما يشهد لله‏ (تعالى‏)‏ بطلاقة القدرة في الخلق‏ ,‏ وبأنه كما أتقن كل شيء خلقه‏ ,‏ فهو‏ (سبحانه‏)‏ قادر على إفنائه وعلى إعادة بعثه‏ .‏ وهذه الآيات الكونية الأربع التي تعرضها سورة الغاشية كانت متوافرة في بيئة الصحراء العربية حيث أنزل القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة‏ ,‏ ولا يزال ما فيها من إبداع الخلق‏ ,‏ وإتقان الصنعة‏ ,‏ ومن الإعجاز وطلاقة القدرة شاخصا أمام أعين أهل العلوم والتقنية في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه‏ ,‏ وأمام بقية حواسهم وعقولهم إذا أحسنوا توظيفها في دراسة خلق الله بشيء من الموضوعية والحيدة ‏.‏

"‏ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " (الغاشية:‏17‏).

فالإبل كانت ولا تزال من الحيوانات الأساسية في البيئة الصحراوية لأن الله‏ (تعالى‏)‏ قد زودها بقدر من الصفات البدنية والتشريحية والوظائفية التي تميزها عن غيرها من الحيوانات الثديية المشيمية‏
(PLACENTALMAMMALS)‏ بصفة عامة‏ ,‏ وعن كل من الأبقار والغزلان والزرافات التي يضعها علماء تصنيف الحيوان مع الجمال في مجموعة واحدة تعرف باسم مجموعة الحيوانات الثديية المشيمية المجترة(Ruminant Placental Mammals‏) بصفة خاصة أو ما يسمى باسم ذوات الحافر مزدوج الأصابع‏(Even`ToedUngulates=Artiodactyla‏) كذلك فإن في رفع السماء بغير عمد مرئية‏ (أو بعمد غير مرئية‏)‏ قد شغل بال الناس منذ القدم خاصة أهل الصحاري الذين تساءلوا دوما عن رفعها‏ ,‏ وعن ضرورة أن يكون لها رافع مبدع له من العلم والحكمة والقدرة ما مكنه من تحقيق ذلك‏ ,‏ وأن الذي رفعها قادر على هدمها وعلى إعادة بنائها من جديد‏ .‏ وللجبال في شموخها‏ ,‏ وارتفاعها‏ ,‏ وانتصابها فوق سطح الأرض ما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة لأن جذورها تطفو في نطاق الضعف الأرضي الموجود تحت الغلاف الصخري للأرض مباشرة‏ ,‏ وتحكمها في ذلك قوانين الطفو فكلما أخذت عوامل التعرية من قممها ارتفعت جذور الجبال إلى أعلى حتى تخرج من نطاق الضعف الأرضي بالكامل فيتوقف الجبل عن الحركة حتى تبريه عوامل التعرية بالكامل وتسويه بسطح الأرض‏.‏ وفي هذه العملية من الضوابط المحكمة ما يشهد لله الخالق‏
آ (سبحانه وتعالى‏)‏ بطلاقة القدرة‏ ,‏ وبديع الصنعة‏ ,‏ وإحكام الخلق ‏.‏
ثم تأتي الإشارة إلى كيفية تسطيح الأرض‏" وإلى الأرض كيف سطحت‏ " ‏(‏الغاشية:‏20) ,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الأرض في مرحلة من مراحل بدء خلقها كانت معقدة التضاريس‏ ,‏ وذات وعورة شديدة‏ ,‏ لا تسمح للحياة أن تزدهر على سطحها ثم سخر الله‏ (تعالى‏)‏ مختلف عوامل التعرية من المياه الجارية‏ ,‏ والرياح السافية‏ ,‏ والجاذبية الأرضية الحاكمة ما ساعد على شق الفجاج والسبل‏ ,‏ وتسوية القمم السامقة إلى السهول المنبسطة‏ ,‏ وتشكيل التلال والهضاب‏ ,‏ وتكوين التربة‏ ,‏ وخزن المياه في صخور الأرض‏ ,‏ وتركيز الخامات‏ ,‏ وتدفق الأنهار‏ (وغيرها من المجاري المائية‏)‏ إلى البحار والمحيطات‏ ,‏ وتكوين الشواطئ والسفوح والمنحدرات‏ ,‏ وكلها من وسائل تسوية سطح الأرض‏ (أي تسطيحها‏)‏ وهي من العمليات اللازمة لجعل الأرض صالحة للعمران بكل من النبات والحيوان والإنسان‏ ,‏ والشاهدة لله الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بطلاقة القدرة على إبداع الخلق‏ ,‏ وعلى إفنائه‏ ,‏ وإعادة خلقه من جديد‏ (أي بعثه‏) .‏ وبعد هاتين الجولتين في كل من عالمي الآخرة والدنيا‏ ,‏ تختتم سورة الغاشية بتوجيه الخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ وذلك بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ " فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌآ . لَسْتَ عليهِم بِمُسَيْطِرٍآ . إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَآ . فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَآ . إِنَّ إلينَا إِيَابَهُمْآ . ثُمَّ إِنَّ علينَا حِسَابَهُمْ " ‏(‏الغاشية‏21‏-‏26)‏ , وفي ذلك تحديد لدور الرسول الخاتم‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ وهو دور كل نبي وكل رسول جاء قبله ألا وهو التذكير بالله الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ وبضرورة الخضوع له بالطاعة والعبادة وبحقيقة الآخرة وما فيها من بعث وحساب وجنة ونار وثواب وعقاب‏ ,‏ والتذكير ببديع صنع الله‏ (تعالى‏)‏ في خلقه‏ ,‏ والاستدلال بما في عالم الشهادة من آيات الإحكام والإبداع في الخلق على ما في عالم الغيب من بعث وحساب وعقاب وثواب ‏.‏
وبذلك يتحدد دور أنبياء الله ورسله في تبليغ الخلق بحقيقة الدين الذي يقرر القرآن الكريم بأنه لا إكراه فيه‏‏ " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عليمٌ " (البقرة‏256)‏ , ومن هنا جاء الخطاب إلى رسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ لست عليهم بمصيطر أي أنك لا تملك من أمر القلوب شيئا فتقهرها على الإيمان بالله‏ ,‏ فليس عليك إلا البلاغ المبين‏ ,‏ والهداية نعمة من رب العالمين يمن بها على من يشاء من عباده بناء على ما يعلمه بعلمه المحيط من خير فيه أو شر‏.

وهنا يخلط كثير من الناس بين حقيقة أن الدين لابد وان ينبع عن قناعة قلبية وعقلية كاملتين دون أدني إكراه أو إجبار‏ ,‏ وبين الجهاد في سبيل الله الذي فرض لرفع الظلم عن المظلومين‏ ,‏ ولدفع العدوان على بلاد المسلمين‏ ,‏ ولإزالة العقبات من وجه الدعاة إلى الله من أجل تبليغ الناس بدين الله دون إكراه أو إجبار‏ ,‏ وبذلك يتحدد دور كل الأنبياء والمرسلين‏ ,‏ ودور خاتمهم أجمعين‏ (عليه وعليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ ودور كل داعية إلى دين الله من بعدهم وبعده‏ ,‏ ولكن من تولى عن الإيمان‏ ,‏ ورفض التسليم بأن القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم‏ ,‏ وبأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه هو آخر أنبياء الله ورسله‏ ,‏ وأنه ليس من بعده‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ من نبي ولا من رسول‏ ,‏ وأن عدم الإيمان به وببعثته الشريفة‏ ,‏ وبرسالته الخاتمة هو كفر بكل رسالات السماء‏ ,‏ وبالله الذي أرسلها على فترة من الأنبياء والمرسلين‏ ,‏ وأتمها وأكملها وختمها في رسالته الخاتمة ممثلة في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين‏ (صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏) ,‏ كل من كفر بذلك فحسابه على رب العالمين يعذبه العذاب الأصغر في الدنيا‏ ,‏ ثم العذاب الأكبر في الآخرة‏ ,‏ لأن الرجوع إلى الله‏ (تعالى‏)‏ أمر حتمي‏ ,‏ لا مفر منه‏ ,‏ ولا حيود عنه‏ ,‏ وكذلك حساب الله‏ (تعالى‏)‏ لخلقه بعد البعث‏ ,‏ وجزاؤه لهم بالخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا كما أخبرنا الصادق المصدوق‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ وبذلك تختتم سورة الغاشية بحقيقة من أعظم حقائق الوجود يقررها الله (تعالى‏)‏ بقوله الحق‏‏ " إِنَّ إلينَا إِيَابَهُمْآ . ثُمَّ إِنَّ علينَا حِسَابَهُمْ " (‏الغاشية‏26,25)‏ .

من أقوال المفسرين :
في تفسير قوله‏ (تعالى‏) : ‏" أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " (الغاشية‏17):
(1) ذكر ابن كثير‏ (يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏‏ يقول تعالى آمرا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته‏ " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏ "آ  (الغاشية‏17) ‏. فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب‏ ,‏ فإنها في غاية القوة والشدة‏ ,‏ وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف‏ ,‏ وتؤكل‏ ,‏ ويشرب لبنها‏ ,‏ وينتفع بوبرها‏ ,‏ ونبهوا إلى ذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل‏ .
(2) وجاء في الظلال‏ (رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما يلي‏ . والإبل حيوان العربي الأول‏ ,‏ عليها يسافر ويحمل‏ ,‏ ومنها يشرب ويأكل ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل‏.‏ فهي مورده الأول للحياة‏ ,‏ ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان‏ ,‏ فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد‏ ,‏ وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف ‏.‏ مرعاها ميسر‏ ,‏ وكلفتها ضئيلة‏ ,‏ وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال ‏. لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل‏ ,‏ وهي بين أيديهم‏ ,‏ لا تحتاج منهم إلى نقله ولا علم جديد‏ .‏ أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون‏‏ كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها‏ ,‏ المحقق لغاية خلقها‏ ,‏ المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا‏!!‏ إنهم لم يخلقوها‏ ,‏ وهي لم تخلق نفسها‏ ,‏ فلا يبقي إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته‏ ,‏ التي تدل عليه‏ ,‏ وتقطع بوجوده‏ ,‏ كما تشي بتدبيره وتقديره‏ .‏
(3) وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏ (جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏‏ أيهملون التدبر في الآيات‏ ,‏ فلا ينظرون إلى الإبل‏ ,‏ كيف خلقت خلقا بديعا يدل على قدرة الله؟‏!‏
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه‏‏ في خلق الإبل آيات معجزات دالة على قدره الله ليتدبر في ذلك المتدبرون‏ ,‏ فمن المعروف أن من صفاتها الظاهرة ما يمكنها من أن تكون سفن الصحراء بحق‏ ,‏ فالعينان ترتفعان فوق الرأس وترتدان إلى الخلف فضلا عن طبقتين من الأهداب تقيانها الرمال والقذى‏ ,‏ وكذلك المنخران والأذنان يكتنفها الشعر للغرض نفسه‏ ,‏ فإذا ما هبت العواصف الرملية انقفل المنخران‏ ,‏ وانثنت الأذن على صغرها وقلة بروزها نحو الجسم‏ ,‏ أما القوائم فطوال تساعد على سرعة الحركة‏ ,‏ مع ما يناسب ذلك من طول العنق‏ ,‏ وأما الأقدام فمنبسطة في صورة خفاف تمكن الإبل من السير فوق الرمال الناعمة‏ ,‏ وللجمل كلكل تحت صدره‏ ,‏ ووسائد قرنية على مفاصل أرجله تمكنه من الرقود فوق الأرض الخشنة الساخنة‏ ,‏ كما أن على جانبي ذيله الطويل شعرا يحمي الأجزاء الخلفية الرقيقة من الأذى ‏.‏ أما مواهب الجمل الوظيفية فأبلغ وأبدع‏ ,‏ فهو في الشتاء لا يطلب الماء‏ ,‏ بل قد يعرض عنه شهرين متتاليين إذا كان الغذاء غضا رطبا أو أسبوعين إن كان جافا‏.‏ كما أنه قد يتحمل العطش الكامل في قيظ الصيف أسبوعا أو أسبوعين‏ ,‏ يفقد في أثنائهما أكثر من ثلث وزن جسمه‏ ,‏ فإذا ما وجد الماء تجرع منه كمية هائلة يستعيد بها وزنه المعتاد في دقائق معدودات‏.‏ والجمل لا يختزن الماء في كرشه كما كان يظن‏ ,‏ بل إنه يحتفظ به في أنسجة جسمه ويقتصد في استهلاكه غاية الاقتصاد‏ ,‏ فمن ذلك أنه لا يلهث أبدا ولا يتنفس من فمه ولا يصدر من جلده إلا أدني العرق‏ ,‏ وذلك لأن حرارة جسمه تكون شديدة الانخفاض في الصباح المبكر‏ ,‏ ثم تأخذ في الارتفاع التدريجي أكثر من ست درجات قبل أن تدعو الحاجة إلى تلطيفها بالعرق والتبخر‏ ,‏ وعلى الرغم من كمية الماء الهائلة التي يفقدها الجسم بعد العطش الطويل فإن كثافة دمه لا تتأثر إلا في الحدود المقبولة‏ ,‏ ومن ثم لا يقضي العطش عليه‏.‏ وقد ثبت أن دهن السنام مخزن للطاقة يكفيه غوائل الجوع‏ ,‏ ولكنه لا يفيد كثيرا في تدبير الماء اللازم لجسمه‏.‏ وما زال العلماء يجدون في الجمل كلما بحثوا مصداقا لحض الله تعالى لهم على النظر في خلقه المعجز ‏.آ  وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلى تكراره هنا‏ .

"‏ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " (الغاشية:‏17‏).

من الدلالات العلمية للآية الكريمة :
تشير هذه الآية القرآنية الكريمة إلى ما في خلق الإبل من إعجاز يشهد للخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بالألوهية‏ ,‏ والربوبية‏ ,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏ ,‏ كما يشهد له‏ (سبحانه‏)‏ بالقدرة على إفناء ما قد خلق وعلى إعادة خلقه من جديد‏ (أي بعثه‏)‏ والإبل تنتمي إلى مجموعة من الحيوانات الثديية المشيمية المجترة ‏(Ruminanr Placental Mammals)‏ وإلى قسم خاص منها يعرف باسم ذوات الحافر‏ (الخف‏)‏ مزدوج الأصابع‏(Even-ToedUngulates=Artiodactyla)‏وهي من آكلات العشب التي يجمعها القرآن الكريم تحت مسمي الأنعام لما فيها من نعم الله العظيمة على الإنسان‏ ,‏ وتشمل كلا من الإبل‏ ,‏ والبقر‏ ,‏ والضأن‏ ,‏ والمعز‏ (الماعز‏) ,‏ وتضم الإبل بالإضافة إلى الجمال مجموعة الغزلان وكلاهما يصنف في عائلة واحدة تعرف باسم عائلة الإبليات أو الجمليات وبها نوعان متميزان هما نوع الجمل ‏(camelus)(Camelides)‏ ونوع اللاما ‏(Lama) ,‏ ومن الجمال ماله سنام واحد وهو الجمل العربي‏ (Camelusdromedarius)‏ وماله سنامان وهو الجمل الآسيوي ‏(Camelusbactrianus) ‏وينتشر في آسيا الوسطى وصولا إلى منشوريا في بلاد الصين‏ .‏ والإبل بأنواعها تتميز عن جميع الأنعام بميزات بدنية‏ ,‏ وتشريحية‏ ,‏ ووظائفية عجيبة ألمح إليها القرآن الكريم بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏) "‏ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " ‏(‏الغاشية:‏17)‏ .
فالإبل عمرت الأرض قبل خلق الإنسان بحوالي الخمسين مليون سنة وازدهرت ازدهارا هائلا في عهد الإيوسين المعروف باسم فجر الحياة الحديثة‏ .‏ والجمل العربي الذي يعيش في المناطق الصحراوية الجافة القاحلة الشديدة الحرارة في نهار الصيف‏ ,‏ والشديدة البرودة في ليل الشتاء قد تم استئناسه من قبل أربعة آلاف إلى خمسة آلاف سنة في شبه الجزيرة العربية من مجموعة برية كانت تعيش فوق هضاب حضرموت‏ .‏ ومن الجزيرة العربية انتشرت الجمال العربية إلى كل من إفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا عبر الوجود الإسلامي في تلك البلاد خاصة في شبه الجزيرة الأيبيرية‏ (بلاد الأندلس‏) .‏
وقد ثبت للدارسين والمراقبين أن الحمل العربي هو بحق سفينة الصحراء وأنه أصلح الوسائل الفطرية للسفر والحمل والتفضل في الأراضي الصحراوية الجافة فهو يستطيع قطع مسافة تصل إلى الخمسين ميلا في اليوم متحملا الجوع والعطش لعدة أيام متتالية في شدة حرارة نهار صيف الصحراء‏ ,‏ ويستطيع حمل أكثر من نصف طن من المؤن والركاب والسير بهم وبها لأكثر من عشرين ميلا في اليوم دون طعام أو شراب لعدة أيام متتالية‏ ,‏ وذلك لما خص الله‏ (تعالى‏)‏ به هذا الحيوان من ميزات جسدية‏ ,‏ وتشريحية‏ ,‏ ووظائفية لا تتوافر لغيره من الحيوانات‏ ,‏ ومن هذه الميزات ما يمكن إيجازه في النقاط التالية .

أولا‏‏ من الصفات الجسدية للجمل العربي‏‏ :
‏(1)‏ ضخامة الجسم‏ ,‏ وارتفاع القوائم‏ ,‏ وطول العنق في تناسق عجيب يمكن الجمل العربي من سرعة الحركة‏ ,‏ واتساع مجال الرؤية‏ ,‏ ومن اختزان كميات كبيرة من الماء والغذاء والدهون والطاقة تعينه على احتمال الجوع والعطش لفترات لا يقوى عليها حيوان آخر‏ .‏
‏(2)‏ لرأس الجمل أنف ذو منخارين أعطاهما الله‏ (تعالى‏)‏ القدرة على الانغلاق كليا تحاشيا لرمال الصحراء العاصفة ومنعا لجفاف القصبة الهوائية وزوج من العيون الحادة الإبصار‏ ,‏ ترتفعان فوق رأسه المحمول على عنقه الطويل‏ ,‏ وجسده المرتفع عن الأرض مما يوسع مجال الرؤية‏ ,‏ ولكل واحدة من هاتين العينين المندفعتين إلى الخلف طبقة من الأهداب تقيانهما من هبوب العواصف الرملية في الصحراء وما تحمله من أذىً وقذىً ‏.‏ ولفم الجمل شفتان عريضتان السفلي منهما مشقوقة حتى تمكنه من تناول الأعشاب الشوكية دون أن تؤذيه ‏.‏
‏(3)‏ وعلى جانبي رأس الجمل أذنان صغيرتان يكتنف كلا منها شعر كثيف لوقايتها من الرمال العاصفة‏ ,‏ خاصة وأن الله‏ (تعالى‏)‏ قد أعطاهما القدرة على الانثناء إلى الخلف‏ ,‏ والالتصاق بجانبي الرأس لمنع دخول الرمال فيهما ‏.‏
‏(4)‏ أقدام الجمل منبسطة على هيئة الخف المكون من نسيج دهني سميك يعين الجمل على السير فوق الرمال الناعمة وفوق غير ذلك من أنواع التربة الخشنة والصخور الناتئة‏ .‏
‏(5)‏ ذيل الجمل محاط بشعر كثيف يحمي أجزاء جسده الخلفية من كل أذي خاصة من الرياح العاصفة المحملة بالرمال‏ .‏
‏(6)‏ طول سيقان الجمل تبعده عن التأثر بحرارة الأرض‏ ,‏ وارتفاع سنامه يبعد غالبية جسده عن التأثر بحرارة الشمس لأن تكتل كمية كبيرة من الدهون في منطقة السنام يحول دون انتشار حرارة الشمس إلى داخل الجسم‏ ,‏ خاصة أن الخالق العظيم قد ألهم الجمل بالوقوف متعامدا مع أشعة الشمس قدر الاستطاعة حتى لا يتعرض لها من جسده إلا أقل مساحة ممكنة ‏.‏
‏(7)‏ خلق الله‏ (تعالى‏)‏ للجمل وسادة حرشفية‏/‏ قرنية أسفل صدره تعرف باسم الكلكل‏ ,‏ ووسائد مشابهة فوق كل ركبة من ركبه‏ ,‏ وهذه الوسائد تمكن الجمل من الرقود على الأرض مهما كانت قاسية وخشنة دون أذي كما تعينه على رفع جسده عن الأرض لعزله عن حرارتها وللسماح لتيار من الهواء يتحرك بينه وبين الأرض لتهويته وتلطيف درجة حرارته‏ .‏
‏(8)‏ جعل الله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ للجمل جلدا غليظا جدا‏ ,‏ قليل المرونة‏ ,‏ قادرا على تحمل العواصف الحارة المحملة بالرمال عند هبوبها‏ ,‏ وعلى مقاومة لسعات الحشرات وقرصات غيرها من الحيوانات‏ ,‏ خاصة وأن هذا الجلد يغطيه وبرسميك يدفئ جسم الجمل في الشتاء ويحمي حراراته من التصرف إلى الخارج ويحميه من حرارة الشمس الحارقة في الصيف‏ ,‏ خاصة وأنه يعكس أشعتها بلونه الفاتح‏ ,‏ وجلد الجمل يمتاز بقلة انتشار الغدد العرقية فيه مما يقلل من فقدان مخزونه المائي عن طريق العرق ‏.‏
‏(9)‏ كذلك يساعد طول عنق الجمل وارتفاع أقدامه على تمكينه من تناول أوراق الأشجار العالية‏ ,‏ وتساعد شفته السفلي المشقوقة على تناول الأعشاب الشوكية دون أن تؤذيه‏ ,‏ خاصة وأن الله‏ (تعالى‏)‏ قد جعل للجمل ميلا فطريا للأعشاب المالحة التي تكثر في الصحاري الجافة وذلك مثل أنواع الحلفاء‏(Halophytes) ,‏ وللجمل قدرة فائقة على استيعاب كميات كبيرة من أملاح هذه الأعشاب دون التأثير على درجة ارتوائه أو شعوره بالعطش‏ ,‏ وذلك من مثل أملاح الصوديوم‏ ,‏ والكالسيوم‏ ,‏ والسلينيوم‏ ,‏ والفوسفور‏ ,‏ والنحاس‏ ,‏ وغيرها‏.‏ وكل واحد من هذه الأملاح يلعب دورا مهم في حياة الجمل‏ ,‏ وفي تخليق أعداد من الإنزيمات اللازمة لنشاطه الحيوي‏.‏ والجمل يستهلك من كل من هذه الأملاح ما يحتاجه ويختزن الباقي في الكبد لاسترجاعه عند الحاجة إليه‏ .‏

ثانيا‏‏ : من الصفات التشريحية للجمل‏‏ :
‏(1)‏ الجمل من الثدييات المشيمية المجترة‏ ,‏ ولكنه يختلف عن كثير منها بتضاؤل المعدة الثالثة‏ ,‏ وبوجود ما يسمي ـ مجازا ـ باسم الأكياس المائية في المعدة الأولي‏ ,‏ وهذه الأكياس عبارة عن انثناءات تضم الملايين من الخلايا الغددية التي تلعب دورا رئيسيا في تفعيل عملية الهضم وإنتاج كم كبير من السوائل‏.‏
‏(2)‏ كذلك فإن البلعوم الطويل للجمل يحتوي على عدد هائل من الغدد التي تعمل على ترطيب الوجبة الغذائية الجافة مما يعين على سهولة تحركها إلى باقي أجزاء الجهاز الهضمي خاصة وان الجمل يعتمد في غذائه أساسا على الأعشاب الجافة‏ ,‏ وأوراق الأشجار الشمعية القاسية ‏.‏
‏(3)‏ زود الله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ الجهاز الهضمي للجمل بالعديد من الإنزيمات المنتجة فيه‏ ,‏ والكائنات الدقيقة المتعايشة معه لتقوم بتحليل المواد السيليولوزية القاسية في معدة الاجترار إلى عدد من المركبات النيتروجينية مثل الأمونيا واليوريا ثم بناء عدد من الأحماض الأمينية‏ ,‏ والبروتينات والدهون‏ ,‏ وفي تجهيز عدد من الفيتامينات اللازمة لحياة الجمل‏ ,‏ ومن العجيب أن يصل تركيز أحد الفيتامينات المهمة مثل فيتامين د في جسم الجمل إلى خمسة عشر ضعفا لما هو موجود في أجساد باقي الحيوانات المجترة على الرغم من فقر غذاء الجمل بصفة عامة‏ ,‏ وذلك لأن هذا الفيتامين يلعب دورا مهما في تركيز الكالسيوم في العظام وهو أمر يحتاجه الجمل بهيكله العظمي الضخم‏ .‏

ثالثا‏‏ : من الصفات الوظائفية لأعضاء جسم الجمل‏‏ :
‏(1)‏ الجمل من ذوات الدم الحار‏ ,‏ ولكن الله‏ (تعالى‏)‏ قد وهبه القدرة على تغيير حرارة جسده ليتوافق مع درجات الحرارة المحيطة به صيفا وشتاء‏ ,‏ ونهارا وليلا دون أن يصاب بأذىً‏ ,‏ ويتراوح المدى الحراري لدماء الجمل بين‏34‏ م‏ ,42‏ م وهو مدي يعتبر قاتلا للعديد من الأحياء‏ .‏
‏(2)‏ يؤدي نقصان كمية الماء في أجسام معظم الحيوانات إلى زيادة لزوجة دمائها مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الجسم وينتهي بالكائن إلى الوفاة ‏.‏ أما الجمل فتبقي لزوجة دمه ثابتة مهما نقص الماء في جسمه مما يسمح لعملية النقل الحراري أن تتم بين القلب والأطراف ‏.‏
‏(3)‏ الارتفاع في درجة حرارة جسم الجمل يعين على نقص استخدام الأكسجين مما يبطئ من عملية التمثيل الغذائي في داخل جسمه وبالتالي يحد من ارتفاع درجة حرارته وهذا بعكس جميع المعروف من الحيوانات‏ .‏
‏(4)‏ يستطيع الجمل العيش دون شرب الماء لعدة أسابيع‏ ,‏ وكمية الماء التي يتناولها ترتبط بنوعية الأكل الذي يأكله‏ ,‏ وعلى درجة الحرارة الخارجية حوله‏ ,‏ وقدر الماء الذي سبق له تناوله ‏.‏
وفي الجو البارد يستطيع الجمل العيش على كمية الماء الموجودة فيما يتناوله من طعام إذا كان غضا طريا‏ ,‏ وفي هذه الحالة يمكنه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل إلى الشهر الكامل‏ ,‏ أما في الأجواء الحارة ومع تناول الطعام اليابس فان الجمل بإمكانه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل إلى الأسبوع ‏.‏ ولذلك وهب الله‏ (تعالى‏)‏ الجمل القدرة على تحمل ندرة كل من الماء ومصادر الغذاء في الصحراء‏ ,‏ وقلة تنوع تلك المصادر‏ ,‏ وضعف محتواها الغذائي‏ ,‏ كما أعطاه القدرة على شرب كميات كبيرة من الماء عند توافره دون أن يؤذيه ذلك‏ ,‏ وأعطاه القدرة كذلك على تحمل إنقاص وزنه بمعدل الثلث‏ ,‏ وزيادته بنفس المعدل دون التعرض لأية مخاطر صحية علما بأن ذلك قد يودي بحياة غيره من الحيوانات ‏.‏
هذه الصفات قليل من كثير مما وهب الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ الجمل‏ ,‏ وهي لم تدرك إلا في القرن العشرين‏ ,‏ والتلميح إليها في الآية التي نحن بصددها لما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏ ,‏ ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏